فصل: فصل: شهادة قواعد الطب في اللدغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقيق ب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علما ومعرفة وعملا وحالا: يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم رواءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به 24: 48 50: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيق مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَض أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والمقصود: أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات وهم أعظم الناس ندامة وتحسرا إذا حق الحق وبطل الباطل وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها والقدوم على الله ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ وينكشف كل الإنكشاف يوم اللقاء إذا حقت الحقائق وفاز المحقون وخسر المبطلون وعلموا أنهم كانوا كاذبين وكانوا مخدوعين مغرورين فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ويقين لا ينجني مستيقنه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له وإليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالاستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء ب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ودواء الكبر ب: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء.
فإذا عوفى من مرض الرياء ب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن مرض الكبرياء والعجب ب: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومن مرض الضلال والجهل ب: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} عوفى من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه: {وَلا الضَّالِّينَ} وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحقّ لسورة تشتمل على هذين الشفاءين: أن يستشفى بها من كل مرض ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصا اختصها به من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.

.فصل: تضمن سورة الفاتحة لشفاء للأبدان:

وأما تضمنها لشفاء للأبدان: فنذكر منه ما جاءت به السنة وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة: ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري: «أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق فقالوا نعم ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب فقام كأن لم يكن به قلبة فقلنا لا تعجلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال ما يدريك أنها رقية؟ كلوا واضربوا لي معكم بسهم».
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء.
هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا.

.فصل: شهادة قواعد الطب في اللدغة:

وأما شهادة قواعد الطب بذلك: فاعلم أن اللدغة تكون من ذوات الحمات والسموم وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيف بكيفية غضبية تثير فيها سمية نارية يحصل بها اللدغ وهي متفاوتة بحسب تفاوت خبث تلك النفوس وقوتها وكيفيتها فإذا تكيفت أنفسها الخبيثة بتلك الكيفية الغضبية أحدث لها ذلك طبيعة سمية تجد راحة ولذة في إلقائها إلى المحل القابل كما يجد الشرير من الناس راحة ولذة في إيصال شره إلى من يوصله إليه وكثير من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدا من بني جنسه ويجد في نفسه تأذيا بحمل تلك السمية والشر الذي فيه حتى يفرغه في غيره فيبرد عند ذلك أنينه وتسكن نفسه ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدت شهوته إلى الجماع فيسوء خلقه وتثقل نفسه حتى يقضي وطره هذا في قوة الشهوة وذاك في قوة الغضب.
وقد أقام الله تعالى بحكمته السلطان وازعا لهذه النفوس الغضبية فلولا هو لفسدت الأرض وخرجت 2: 251: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}. وأباح الله بلطفه ورحمته لهذه النفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدتها. والمقصود: أن هذه النفوس الغضبية إذا اتصلت بالمحل القابل أثرت فيه ومنها ما يؤثر في المحل بمجرد مقابلته له وإن لم يمسه فمنها ما يطمس البصر ويسقط الحبل.
ومن هذا نظر العائن فإنه إذا وقع بصره على المعين حدثت في نفسه كيفية سمية أثرت في المعين بحسب عدم استعداده وكونه أعزل من السلاح وبحسب قوة تلك النفس وكثير من هذه النفوس يؤثر في المعين إذا وصف له فتتكيف نفسه وتقابله على البعد فيتأثر به ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمية وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها وما تضمنته من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسمائه الحسنى وذكر اسمه الذي ما ذكر على شر إلا أزاله ومحقه ولا على خير إلا نماه وزاده دفعت هذه النفس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية فحصل البرء فإن مبنى الشفاء والبرء على دفع الضد بضده وحفظ الشيء بمثله فالصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا ولا يتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة وقبول من الطبيعة المنفعلة فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء.
فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء وبذل الطبيب له وقبول طبيعة العليل فمتى تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن عرف هذا كما ينبغي تبين له أسرار الرقي وميز بين النافع منها وغيره ورقى الداء بما يناسبه من الرقي وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل كما أن السيف بضاربه مع قبول المحل للقطع وهذه إشارة مطلعة على ما وراءها لمن دق نظره وحسن تأمله والله أعلم.
وأما شهادة التجارب بذلك: فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولاسيما مدة المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان.

.فصل في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة:

وهذا يعلم بطريقين مجمل ومفصل:
أما المجمل: فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والإنقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق: هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى وكل ذلك مسلم إلى رسول الله دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.
فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية بحيث يكون من ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وطريق أهل الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه ولهذا قال عبدالله ابن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم: الصراط المستقيم: هو الإسلام وقال عبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: هو القرآن وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره وقال سهل بن عبدالله: طريق السنة والجماعة وقال بكر بن عبدالله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له.
فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل وهو من صراط الأمتين الأمة الغضبية وأمة أهل الضلال.

.فصل: اشتمال كلمات الفاتحة على إبطال المذاهب الباطلة:

وأما المفصل: فبمعرفة المذاهب الباطلة واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها فنقول:
الناس قسمان: مقر بالحق تعالى وجاحد له فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين.
وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه: تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما بل دلالة الخالق على المخلوق والفعال على الفعل والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية والفطر الصحيحة أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ولا ريب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الإستدلال بالصنعة فكثير وأما الإستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم 14: 10: {أَفِي اللَّهِ شَكّ} أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}.
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روح يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل

ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم فليس عند القوم رب وعبد ولا مالك ومملوك ولا راحم ومرحوم ولا عابد ومعبود ولا مستعين ومستعان به ولا هاد ولا مهدي ولا منعم ولا منعم عليه ولا غضبان ومغضوب عليه بل الرب هو نفس العبد وحقيقته والمالك هو عين المملوك والراحم هو عين المرحوم والعابد هو نفس المعبود وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها فتظهر تارة في صورة معبود كما ظهرت في صورة فرعون وفي صورة عبد كما ظهرت في صورة العبيد وفي صورة هاد كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة فحقيقة العابد ووجوده أو إنيته هي حقيقة المعبود ووجوده وإنيته.
والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم.